قصة قصيرة / الحِكمَةُ المِثَاليّة - كارلوس دْرومونْد دي أنْدرادي

 

قصة قصيرة  / الحِكمَةُ المِثَاليّة - كارلوس دْرومونْد دي أنْدرادي


Carlos Drummond de Andrade
(1902-1987)

اختيار وترجمة: سعيد بنعبد الواحد.

قصة قصيرة  / الحِكمَةُ المِثَاليّة - كارلوس دْرومونْد دي أنْدرادي



                                 الحِكمَةُ المِثَاليّة
توجدُ الحكمةُ الحقيقية في الكُتب التي لم تُكتَب، أيْ في الأوراق ذات الصفحات البيضاء، المجموعة في مجلدات. هذا ما استنتجهُ أحد عُشّاق الكتُب الذي أصبح فيلسوفاً. استبْدَل الكتُب المطبوعة، التي كانت تؤذي عينيْه، بكُتب أخرى ذات بياض لا تشوبُه شائبة، وتأكّد من أنّ فيها يكمُن جوهرُ المعرفة. 

كان يعجبُه أن يفتحها كيفا اتُّفق ويمرّر أصابعَه بكلّ لطف على سطْحِها البِكْر. ولا أيُّ نظرية زائفة، ولا أيُّ خطأ كان يسكنُ تلك الصفحات. على العكس من ذلك، كما لو أنّ الحكمة التي لا تقبلُ الجدل كانت تُعشّشُ هناك. الحكمةُ بيضاء، فكّرَ. الأكاذيب ملوّنة، والحروفُ تجسيدٌ بصري لأشكال السّفسطة أو الألغاز التي يُعوزُها التأويلُ. 

أخذت مكتبتُه تتقلّصُ، لأنّ عيوب الورق كانت خطأ بطريقة ما، وكان صاحبُنا ينْفِرُ من الخطأ. أحياناً، لا يكونُ العيب في الصُّنع، بل مُجرّد طيّة أو علامة ظُفْر تركَها أحدُهم. فيَحكُم على المُجلّد، ومن تقْليصٍ إلى آخر صارت المكتبةُ تتشكّل من مُجلّد واحدٍ، يحْوي الحقيقةَ العُليا المُطلقة.

وكان تصفُّحُ هذا المجلد مجازفةً لا حدّ لها. ماذا لو تمزّقت منه صفحة بالصدفة؟ ماذا لو سقطت عليه قطرةُ قهوة، أو وقع عليه رمادُ سيجارة؟  لم يفتح ذلك المجلد مرة أخرى قطّ. وُضعَ الكتابُ تحتَ فُقاعة من زجاج. كان الحكيم يتأمّلُه في حالةٍ من النّشوة. كان ينامُ سعيداً، متأكدا من أنّ الحكمة التي لا تُوصف كانت على بعد خطوتيْن من السّرير، في أمانٍ. 

كسّرت الحرارةُ زجاجَ الفُقاعة، وحين أَخْرجَ الحكيمُ الكتابَ من بين الشّظايا جرحَ يدَهُ التي قطَرَ دمُها فوق المُجلّد، فتدنَّست الحكمةُ المثاليّة. لم يعُد سعيداً مرة أخرى.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-